الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فصل أقوال المكره بغير حق لغو عندنا؛ مثل كفره، وطلاقه، وبيعه، وشرائه. فإذا أكره البيعان على العقد فهو باطل، وإذا أكرها على التقابض، فهذا إكراه على الأفعال لا على الأقوال، فيكون كل منهما / قد قبض، وأقبض مكرها، فعلى كل منهما أن يرد ما قبضه إلى الآخر، إذا أمكنه؛ لأنه مقبوض بغير حق، وإن كان القابض مكرها. فإن تلف المال المقبوض بالإكراه تحت يد القابض، فإن كان قد أتلفه بفعله، أو بتفريطه، أو بعدوانه فهو ضامن؛ لأن غايته أن تكون يده يد أمانة، ويد الأمانة إذا أتلفت شيئا أو تلف بتفريطها، أو عدوانها، ضمنته؛ كيد المستأجر، والمودع، والمضارب، والوكيل. وإن تلف بغير تفريط منه، فهل تكون يده يد ضمان؛ لأنه قبض مال الغير بغير إذنه، لدفع الضرر عنه؟ أو يد أمانة؛ لأنه قبضه قبضا غير محرم؟ فنقول: تلفه تحت يد المكره، بمنزلة إتلافه كرها، وفيه خلاف. وهو يشبه العارية من بعض الوجوه؛ فإن المستعير قبض المال لنفعه، كما أن المكره قبضه لدفع الضرر عن نفسه، وهذا قبضه بإذن المالك، وهذا قبضه بإذن الشارع، فإن كان المكره القابض قد أخذ منه وفاء عن دين، فهنا يكون ضامنا له؛ لأنه مصروف في منفعته، كمن اضطر إلى طعام الغير فأخذه ليأكله. / فأجاب: إذا بذل البائع ـ والحال هذه ـ للمشتري، فما أداه من الثمن، وامتنع المشتري من الإيفاء بذلك، وطلب ما كتب على البائع من الثمن المؤجل، فإن المشتري ظالم عاص، يستحق العقـوبة؛ فـإن هذه المعاملة لو كانت بطيب نفس البائع، وقد اتفقا على ألا تباع منه الأعيان، بتقديم بيعه إياها إلى أجل، بأكثر من ذلك / الثمن، كانت معاملة باطلة ربوية عند سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأكثر أئمة المسلمين، فكيف والبائع مكره، وبيع المكره بغير حق بيع غير لازم، باتفاق المسلمين، فلو قدر مع ذلك أن المشتري أكره على الشراء منه، وأداه الثمن عنه، فأعطاه البائع الثمن الذي أداه عنه،لوجب تسليم المبيع اليه باتفاق المسلمين. فكيف والمشتري لم يكره على الشراء، والبائع قد بذل له الثمن الذي أداه عنه، فليس للمشتري والحالة هذه مطالبته بزيادة على ذلك، باتفاق الأئمة، ولا مطالبته برد الأعيان التي كانت ملكه. وهي الآن بيده على ما ذكر.
فأجاب: الحمد لله، إذا أكره بغير حق على بيع الدار، لم يصح البيع، وترد الدار إلى مالكها، ويرد على المشتري الثمن الذي أخذ منه، والله أعلم. / فأجاب: الحمد لله، بيع المكره بغير حق لا يصح، وبيع الوقف الصحيح اللازم لا يصح، ومن علم شيئا شهد به، والله أعلم.
وقال ـ رحمه الله: فإذا أكره السلطان أو اللصوص أو غيرهم رجلًا على أداء مال بغير حق، وأكره رجلا آخر على إقراضه، أو الابتياع منه، وأدي الثمن عنه، أو اليه، ليأخذوهم من المقترض، والبائع، سواء كان الإكراه على إقباض المكره،ثم الأخذ منه، أو على الأداء عنه فقط / فهذه المسألة ونحوها تقع كثيرًا، وفيها وجهان: كما لو أخذ السلطان من أحد المختلطين في الماشية زيادة على الواجب عنهما بلا تأويل. أحدهما: أن تلك الزيادة تذهب من مالكها، وليس على الآخر شيء منها، وإن كان السلطان أخذها عنها؛ لأن الظالم ظلم هذا بأخذ ماله، ونواه عن الآخر، وهو ليس وليا للآخر ولا وكيلا عنه حتى تصح نيته، ومجرد النية المحرمة لا يوجب ثبوت المال في ذمة المأخوذ عنه. ولازم هذا القول: أن أحد الشريكين في العقار والمنقول، إذا أخذ السلطان ونوابه الوظائف الظلمية على المال، أو أخذ قطاع الطريق من التجار عن المال الذي معهم شيئا من أحد الشريكين؛ لأن المقبوض إذا كان من عين المال فإن أحد الشريكين لم يرجع على الآخر بنصيبه. وعلى هذا فلو كان المعطي وكيلا، أو وليا؛ كناظر الوقف، ووصي اليتيم، فيلزم إذا لم يكن ما أخذ منه من عين المال، أن يكون من ضمانه، لكن هذا إنما يلزم إذا لم يكن الدفع لحفظ المال، بل كان الدفع لأنه أكره على الأداء. فأما إذا لم يمكن حفظ المال إلا بما دفعه عنه، فهذا التصرف لحفظ المال، وهو بمنزلة إعطاء الخفارة لحفظه، وإعطاء النواطير لدفع اللصوص، والسباع. وأيضا، فالولي والوكيل مأذون لهما عرفا، في مثل هذا الدفع؛ فإنه/ لم يتوكل على أنه يضرب ويحبس على مال يؤدي عن المال،فيتضرر ولا يؤديه، بخلاف ما يوجد من الأجنبي؛ لكن هذا الدليل بعينه وارد في أحد الشريكين، فإن كلاهما وكيل الآخر في شركة العقود. وأيضا، فيفرق بين الكلف النوابية السلطانية، وبين المظالم العارضة.
وسئل فأجاب: إذا تصرف فيه بغير إذن صاحبه كان ظالما، وكان ضامنا له، فإن فات فعليه قيمته، وإن قال المودع أمرتني ببيعه، وقال المودع: لم آمرك ببيعه، بل بتسليمه إلى ولدي. فهذا فيه نزاع، لكن إن باعه بيعًا خارجًا عن البيع المعروف، مثل أن يبيعه إلى أجل، أو بغير النقد ـ نقد البلد ـ أو يبيعه لمن هو جاهل، أو مفلس، ونحو ذلك ـ فهو ضامن لما يتلف من الثمن بكل حال. / وكذلك إذا باعه بدون قيمة المثل، وسلم المبيع، فهو ضامن للنقص. والله أعلم.
وسئل فأجاب: إذا كان قد باعه بيعا صحيحا لازما، فقد خرج عن ملكه، ولم يصح بعد ذلك تمليكها، والملك باق على ملك المشتري. والله أعلم.
وسئل فأجاب: بيع الملك بغير إذن مالكه، ولا ولاية عليه، بيع / باطل. والواجب أن يرد إلى المشتري ما أعطاه من الثمن، ويرد إلى المالك ملكه.
وقـال: الذي يكره من شراء الأرض الخراجية، إنما كان لأن المشتري يشتريها فيرفع الخراج عنها، وذلك إسقاط لحق المسلمين، كما كانوا أحيانًا يقطعون بعضها لبعض المحاربين، إقطاع تمليك، لا إقطاع استغلال؛ كإقطاع الموات. فهذا الانتفاع والإقطاع يسقط حق المسلمين من الرقبة والمنفعة، والخلفاء أخذوه من الغزاة لتكون منفعته دائمة للمسلمين، فإذا قطعت منفعته عن المسلمين صار ظلما لهم، بمنزلة من غصب طريق المسلمين، أو بني في مني ونحوها من المنافع المشتركة بين المسلمين على التأبيد. فأما إذا اشتراها وعليه من الخراج ما على البائع، فهو كما لو ولاه إياها بلا حق، وكما لو ورثها؛ فإن الإرث مجمع عليه: أن الوارث أحق بها بالخراج؛ وذلك لأن إعطاءها لمن أعطيته بالخراج، قد قيل:/ إنه بيع بالثمن المقسط الدائم، كما يقوله بعض الكوفيين. وقد قيل: إنه إجارة بالأجرة المقسطة المؤبدة المدة، كما يقوله أصحابنا، والمالكية والشافعية، وكلا القائلين خرج في قوله عن قياس البيوع والإجارات. والتحقيق أنها معاملة قائمة بنفسها، ذات شبه من البيع ومن الإجارة، تشبه في خروجها عنهما المصالحة على منافع مكانه للاستطراق، أو إلقاء الزبالة، أو وضع الجذع، ونحو ذلك بعوض ناجز، فإنه لم يملك العين مطلقا ولم يستأجرها، وإنما ملك هذه المنفعة مؤبدة. وكذلك وضع الخراج لو كان إجارة محضة، وكان عمر وغيره قد تركوا الأرض للمسلمين، وأكروها، لكان ينبغي إكراء المساكن أيضا؛ لأنها للمسلمين إذا فتحت عنوة، ولكان قد ظلم المسلمين؛ فإن كراء الأرض يساوي أضعاف الخراج. ولكان على المشهور عندهم، لا يستحق الآخذ إلا ما في الأرض من الشجر القائمة من النخيل، والأعناب، وغير ذلك، كمن استأجر أرضا فيها غراس. ولكان دفعها مساقاة ومزارعة ـ كما فعل المنصور والمهدي في أرض السواد ـ أنفع للمسلمين، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر؛ فإنه لا فرق إلا أن ملاك خيبر معينون، وملاك أرض العنوة العمري مطلقون، وإلا فيجوز كذلك أن يؤاجر، ويجوز له في الأرض الموقوفة أن يعامل مساقاة ومزارعة. /وأما بيعها، فلو كان كذلك لباع المساكن أيضا، ولا بيع يكون الثمن مؤبدًا إلى يوم القيامة، فالمستخرج أصل دلت عليه السنة والإجماع، فلا يقاس بغيره ـ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مدها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها). واتفق الصحابة مع عمر على فعله. يوضح ذلك، أن أصل الخراج في قوله: وإذا كان كذلك، فلو أخذه ذمي من الذمي الأول بالخراج، وعاوضه على ذلك عوضا لم يكن في ذلك ضرر أصلا، فلا وجه لمنعه؛ لأنه إن قيل: إنه وقف، فهذا لا يخرجه بهذه المعاوضة عن أن يكون وقفا، بل مستحق أهل الوقف باق، كما كان، وبيع الوقف إنما منع منه لإزالة حق أهل الوقف. وهذا لا يزول؛ بل هو بمنزلة إجارة أرض الوقف بأكثر مما استأجرها، فكأنه قال: أكريتك هذه الأرض بما على من الخراج، وبالزيادة التي تعجلها إلى؛ ولهذا ينتقل إلى ورثة من هي في يده؛ والوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، فإذا جاز انتقاله بالإرث على صفة ما كان ـ والهبة مثله ـ فكذلك المعاوضة، سواء سميت بيعا، أو إجارة؛ ولهذا جوز أحمد إصداق الأرض الخراجية، وما جاز / أن يكون صداقا جاز أن يكون ثمنًا، وأجرة. وما كان ثمنا كان مثمنا. فهذا باب ينبغي تأمله. يبقي إذا أخذه المسلم: هل يكره لما فيه من الصغار، أو لما فيه من الاشتغال عن الجهاد بالحـراثة. فهـذه مواضع أخر ـ غير كونه وقفا ـ تختلف باختلاف المصالح والأوقات كما أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل اليهود على خيبر لقلة المسلمين، فلما كثر المسلمون أجلاهم عمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وصار المسلمون يعمرونها، فكذلك الأرض الخراجية إذا كثر المسلمون كان استيلاؤهم عليها بالخراج أنفع لهم من أن يبقوا فقراء محاويج، والكفار يستغلون الأرض بالخراج اليسير؛ فإنهم كانوا زمن عمر قليلًا، وأهل الذمة كثيرا. وقد يعكس الأمر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم عاملهم على خيبر، ثم عمرها المسلمون لما كثر المسلمون، وتضرروا ببقاء أهل الذمة، في أرض العرب، فكان المعني ضرر المسلمين بأهل الذمة، واكتفاء المسلمين بالمسلمين. فكيف إذا احتاج المسلمون إلى الأرض الخراجية؛ وتضرروا ببقائها في أيدي أهل الذمة، فرأي من احتاج من المسلمين أن يعاوض الذمي عنها، ويقوم مقامه فيها. فإن كان المؤدي أجرة فهو أحق باستئجار أرض المسلمين، وعمارتها،وإن كان ثمنا فهو أحق باشترائها، /وإن كان عسوضا ثالثا فهو به أحق أيضا. ومتي كثر المسلمون لم يبق صغار، ولا جزية، وإنما كان فيه صغار وجزية في الزمن المتقدم، كما لو أسلم الذمي الذي هو مستول عليها، فإنها تبقى بيده مؤديا لخراجها، وسقط عنه جزية جمجمته، فكيف يقاس هذا بهذا. وإذا جاز أن تبقى بيده بعد إسلامه، فما المانع من أن يدفعها إلى مسلم غيره بعوض أو غيره، والمسلم لا صغار عليه بحال، فلو كان المانع كونها صغارًا، لم يجامع الإسلام، كجزية الرأس. ولا يقال: هي كالرق تمنعه الإسلام ابتداء، ولا تمنع دوامه؛ لأن الرق قهرناهم عليه بغير اختيارهم، لم نعاوضهم عليه، فكذلك جزية الرأس، لا نمكنهم من المقام بالأرض الإسلامية إلا بها، فهي نوع من الرق، لثبوتها بغير اختيار المسترق. وأما الخراج فإنما يثبت برضي المخارج، واختياره، ولو لم يقبل الأرض منا لم ندفعها اليه، بمنزلة المساقاة والمزارعة التي عامل النبي صلى الله عليه وسلم بها أهل خيبر، سواء هناك كان العوض جزءا من الزرع، وهنا العوض مسمي معلوم. وهناك لا يستحق شيئا إلا إذا زرعوا، وهنا يستحق إذا أمكنهم الزرع. فنظيره أن العامل في المزارعة يعامل غيره بأقل من الجزء الذي استحقه؛ إذ أن المضارب يدفع المال مضاربة لكن هذا يتوقف على إذن المالك لتعيين المستحق. /وبالجملة، فالموانع من كونها وقفا ينظر فيها. أما جهة الوقف، فلا يتوجه كونها مانعا على أصول الشريعة أبدا. وأما التعليل بالاشتغال بالحراثة عن الجهاد، فهذا عام في جميع الأراضين؛ عشريها وخراجيها، وذاك شيء آخر.
ونظير ذلك مكة. فإنه لا ريب أنها فتحت عَنْوَة، ومن قال: إنها فتحت صلحا، فاستقر ملك أصحابها عليها؛ ليجوز لهم ما يجوز في سائر أراضي الصلح من البيع وغيره كما يقوله الشافعي، فقوله ضعيف؛ لوجوه كثيرة من المنقولات. وأيضا، فإنه لا يجوز مثل ذلك، فإنه لو صالح الإمام قوما من المشركين بغير جزية، ولا خراج، لم يجز إلا للحاجة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية. أما إذا فتحنا الأرض فتح صلح، وأهلها مشركون من غير أهل الجزية، فإنه لا يجوز إقرارهم بغير جزية، بإجماع المسلمين. وأيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في العام القابل / لما حج أبو بكر لمن لم يسلم منهم أجل أربعة أشهر، وإلا جعله محاربا، يستبيح دمه وماله، ولو كان قد فتحها صلحا لم يجز نقض ذلك. وأيضا، فإنه استباح قتل جماعة سماهم...[بياض بالأصل] ولكن فتحها عنوة وأمن من ترك القتال منهم فقد أمنه على نفسه وماله، إلا نفرًا استثناهم، وكان قد أرسل بهذا الأمان مع أبي سفيان، فمنهم من قبله، فانعقد له، ومنهم من لم يقبل فحارب أو هرب. والأمان لا يثبت إلا بقبول المؤمن كالهدنة. وأما من لم يترك القتال فلم يؤمنه بحال، لكن خص وعم في ألفاظ الأمان. والمقصود واحد، فإن قوله: (من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقي السلاح فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) كلها ألفاظ معناها: من استسلم فلم يقاتل فهو آمن؛ ولهذا سماهم الطلقاء، كأنه أسرهم ثم أطلقهم كلهم... [بياض بالأصل]. وقالت الحنفية: لما فتحها عنوة ولم يقسمها، بل أقرها في يد أهلها، صار هذا أصلا في أرض العنوة، أنه يجوز إقرارها في يد أهلها. قالوا ـ هم وأصحابنا وغيرهم في أحد التعليلين ـ: ولهذا لم يجز بيعها وإجارتها، لكونها فتحت عنوة، ولم تقسم كسائر أرض العنوة، وربما يقولون: صار إنزال أهل مكة للناس عندهم هو الخراج المضروب / عليهم، وأما من قال من أصحابنا: إن الخراج يضرب على مزارعها، فقد علم بالنقل المتواتر فساد قوله، مع إجرائه لقياسه. وهذا التعليل ضعيف لوجوه: أحدها: أن أرض العنوة تجوز إجارتها بالإجماع، وبيوت مكة أحسن ما فيها أنه لا تجوز إجارتها، بل يجب بذلها للمحتاج بغير عوض، فهذا الذي يدل عليه الكتاب والسنة، والآثار والقياس. وأما المنع من بيعها ففيه نظر، فلو كان المانع كون فتحها عنوة لما منع إجارتها. الثاني: أن أرض العَنْوَة إنما يمنع من بيع مزارعها. فأما المساكن فلا يمنع ذلك فيها، بل هي لأصحابها. ومكة إنما منعوا من المعاوضة في رباعها التي لا منع منها في أرض العنوة، وهذا برهان ظاهر على الفرق. الثالث: أن مزارع مكة ما علمت أحدا من أصحابنا ولا غيرهم منع بيعها، أو إجارتها، وإنما الكلام في الرِّباع، وهي المساكن لا المزارع، فأين هذا من هذا؟ الرابع: أن تلك الديار كانت للمهاجرين، وقد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم إعادتها اليهم، فلم يفعل، فلو كانت كسائر العَنْوَة / لكان قد أعادها إلى أصحابها؛ لأن الأرض إذا كانت للمسلمين واستولي عليها الكفار، ثم استنقذناها، وعرف صاحبها قبل القسمة أعيدت اليه. والخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لشيء من أموالهم، لا منقولها، ولا عقارها، ولا إلى أحد من ذراريهم، ولو أجري عليها أحكام غيرها من العنوة لغنم المنقولات، والذرية، بل الصواب أن المانع من إجارتها كونها أرض المشاعر، التي يشترك في استحقاق الانتفاع بها جميع المسلمين. كما قال الله تعالى: وصار هـذا بمنزلة من بني بيتًا من رباط، أو مدرسة، أو نحو ذلك، له اختصاص بسكنه، وليس له المعاوضة عليه. أو من بني بيتًا في جنابات السبيل، أو في دار الرباط، التي تكون بالثغور، ونحو ذلك، مما تكون الأرض فيه مشتركة المنفعة. للحج أو للجهاد، أو للمرور في الطرقات، أو التعلم، أو التعبد، ونحو ذلك، فإذا قال: البناء لي، قيل له: والعرصة ليست لك، وأعيان الحجر ليس لك، بل لك/ التاليف، أو التاليف والأنقاض. فما ليس لك لا يجوز أن تعاوض عنه، وما هو لك قد اعتضت عنه ببقائك في الانتفاع بالعرصة. أو لأن المكي لما صار الناس يهدون اليهم الهدايا، وتجب عليهم قسمتها فيهم، صار يجب على المكيين إنزال الناس في منازلهم، مقابلة للإحسان بالإحسان، فصاحب الهدي له أن يأكل منه ـ مثلا ـ حيث يجوز، ويعطي من شاء، ولا يعتاض عنه، وكذلك صاحب المنزل يسكنه، ويسكنه، ولا يعتاض عنه. وهذا المعنى الذي ذكرناه قد يكون هو السبب الموجب لإبقائها بيد أربابها، من غير خراج مضروب عليهم أصلا؛ لأن للمقيمين بمكة حقًا، وعليهم حق، ليست كغيرها من الأمصار، ومن هنا يصير التعليل بفتحها عنوة مناسبا لمنع إجارتها ـ كما ذكرناه ـ لا إلحاقًا لها بسائر أرض العنوة. فإن قيل: فالأرض إذا فتحت عنوة يجوز أمان أهلها على أنفسهم وأموالهم كذلك. قيل: نعم، يجوز قبل الاستيلاء أن يؤمن من ترك القتال على نفسه وماله؛ لما فيه من الانتفاع بترك قتاله وهو أمان بشرط، بل إذا جوزنا السبي على الأسير بعد الأسر للمصلحة، كيف لا نجوز ذلك قبل الأسر. /وهنا زيادة الأمان على ماله؛ لأن ذلك قبل الاستيلاء، كما لو نزلوا على حكم حاكم، فإنه من أسلم منهم قبل الحكم عصم دمه وماله؛ لأنه لم يتم القهر. فإن دخوله مكة كان قبل الظهر ودخلها قهرًا. وبهذا التحرير تظهر الشبهة التي أوجبت كلا من القولين. وأما بعد القهر، فيجوز أن يمن على المقهورين، وتدفع اليهم الأرض مخارجة، فالذين حاربوا بمكة، أو هربوا، ثم أمنهم بعد قهرهم والقدرة عليهم، هذا جائز في أنفسهم كالمن؛ ولهذا سماهم الطلقاء، وأما في أموالهم فالأرض قد ذكرت سبب ذلك فيها. وأما المنقول والذرية... [بياض بالأصل].
فأجاب: إذا كان الماء محبوسًا عليه في الإقطاع، مثل أن تكون الأرض بمائها محبوسة عليه بألف درهم، وبدون تحبيس عليه بخمسمائة / درهم، وهو يريد تعطيل ما يستحقه من الزرع، وبيعه لغيره، يسقي به في أرضه، فإن هذا يجوز بيعه، بخلاف الماء الذي يجري في ملكه بلا عوض، مثل أن يحيي أرضا وفيها عين جارية. فإن في جواز بيع مثل هذا الماء قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: يجوز بيعه، وهو مذهب الشافعي، ومالك. والثانية: لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة، وهو المشهور عن أحمد. وأما الماء الذي يكون بالأرض المباحة،والكلأ الذي يكون بها،فهذا لا يجوز بيعه باتفاق العلماء.
فأجاب: أما من يملك ماء نابعًا مثل أن يملك بئرًا محفورة في ملكه ـ ويدخل في لفظ البئر: ما ينصب عليه الدولاب، ومالا ينصب، أو يملك عين ماء في أرض مملوكة له ـ فهذا يجوز له أن يبيع البئر / والعين جميعا، ويجوز أن يبيع بعضها مشاعًا على أصبع وأصبعين ـ من أربعة وعشرين ـ كما يباع مع البستان والدار ما له من الماء؛ مثل أصبع، وأصابع، من قناة كذا، وإن كان أصل تلك القناة في الأرض المباحة، فكيف إذا كان أصل الماء في ملكه، فهذا مما لا أعلم فيه نزاعًا. وإن كانت العين تنبع شيئًا فشيئًا، فإنه ليس من شرط المبيع أن يري جميع المبيع، بل يرى ما جرت العادة برؤيته. وأما ما يتجدد؛ مثل المنافع، ونقع البئر، فهذا لا يشترط أحد رؤيته، لا في بيع ولا إجارة. وإنما تنازع العلماء لو باع الماء بدون القرار: هل يصح بيعه لكونه يملك، أو لا يصح لكونه لا يملك؟ على قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد، وأكثر العلماء على جواز بيعه، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وهو منصوص للشافعي، بل نص على أن الماء مملوك. وتنازعوا فيما إذا باع الأرض، ولم يذكر الماء: هل يدخل أم لا ؟ وأما بيع البئر والعين بكمالها، أو بيع جزء منها، فما علمت فيه تنازعًا، إذا كانت الأرض مملوكة. وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى شراء بئر رومة من مالكها اليهودي، فاشترى عثمان بن عفان / نصفها، وحبسه على المسلمين، وكان دلوه منها كدلو واحد من المسلمين، ثم لما رأي اليهودي ذلك باعه النصف الآخر فاشتراه عثمان وجعل البئر كلها حبسًا على المسلمين. وهذا الحديث مما احتج به الفقهاء على عدة مسائل؛ مثل وقف المشاع، وتكلم الفقهاء في مثل ذلك. هل فيه شفعة؟ فأكثر الفقهاء على أن فيه الشفعة؛ كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أحد القولين في مذهب مالك، واختاره ابن سُرَيج من أصحاب الشافعي، ولكن المشهور عن الشافعي أنه لا شفعة فيه، وهو الرواية الأخري عن أحمد، اختارها كثير من أصحابه، والأظهر وجوب الشفعة في ذلك. والمقصود هنا أنهم اتفقوا على جواز بيع ذلك، وجواز هبة ذلك أظهر من جواز بيعه.
فأجاب: الحمد لله، أما النبات الذي ينبت بغير فعل الآدمي، كالكلأ الذي أنبته اللّه في ملك الإنسان، أو فيما استأجره، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز بيعه في مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه وهو قول بعض أصحاب مالك، والشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار). ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد ما ينبت في الأرض المباحة فقط؛ لأن الناس يشتركون في كل ما ينبت في الأرض المباحة من جميع الأنواع، من المعادن الجارية؛ كالقير، والنفط. والجامدة؛ كالذهب والفضة، والملح، وغير ذلك،فعلم أنه أراد ما ينبت في أرض الإنسان. وأيضا، فقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ثلاثة لا يكلمهم اللّه، ولا ينظر اليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم: رجل على فضل ماء يمنعه ابن السبيل، فيقول اللّه له: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل مالم تعمله يداك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا إن أعطاه رضي، وإن منعه سخط، ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبًا لقد أعطي بها أكثر مما / أعطي). فهذا توعده اللّه بالعذاب؛ لكونه منع فضل مالم تعمل يداه، والكلأ الذي ينبت بغير فعله لم تعمله يداه. والمشهور من مذهب الشافعي جواز بيع ذلك، وهو المشهور من مذهب مالك في الأرض التي جرت عادة صاحبها بالانتفاع بها، فأما الأرض البور التي لا يحرثها فلأصحابه فيها نزاع، جوز ذلك ابن القاسم، ومنعه غيره. وأما إذا كان صاحبها قصد ترك زرعها لينبت فيها الكلأ، فبيع هذا أسهل من بيع غيره؛ لأن هذا بمنزلة استنباته. وَقَالَ في جَوَابٍ لَه أيضًا: وأما قوله: (الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار). فهو حديث معروف، رواه أهل السنن، وقد اتفق المسلمون على أن الكلأ النابت في الأرض المباحة مشترك بين الناس، فمن سبق اليه فهو أحق به، وأما النابت في الأرض المملوكة، فإنه إن كان صاحب الأرض محتاجًا اليه فهو أحق به، وإن كان مستغنيًا عنه ففيه قولان مشهوران لأهل العلم. وأكثرهم يجوزون أخذه بغير عوض؛ لهذا الحديث، ويجوزون رعيه بغير عوض. /وكذلك الماء إن كان نابعًا في أرض مباحة، فهو مشترك بين الناس، وإن كان نابعًا في ملك رجل فعليه بذل فضله لمن يحتاج اليه للشرب للآدميين والدواب بلا عوض؛ لهذا الحديث، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر اليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم: رجل على فضل ماء يمنعه ابن السبيل. يقول الله له: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها رضي، وإن منعه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر فقال: والله الذي لا إله إلا هو لقد أعطيت بها كذا وكذا). الحديث. والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله، لا حق على أهل النحل لأهل الأرض التي يجني منها، فإن ذلك لا ينقص من ملكهم شيئًا، ولكن العسل من الطلول التي هي من المباحات، وعلى صاحب النحل العشر يصرفه إلى / مستحقه عند كثير من العلماء، كأبي حنيفة وغيرهم، لما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهذه الطلول هي أحق بالبذل من الكلأ؛ فإن هذه الطلول لا يمكن أن يجمعها إلا النحل، لكن إذا كانت لصاحب الأرض فنحله أحق بالجناء في أرضه، فإذا كان جني تلك النحل تضر به، فله المنع من ذلك، والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله، إذا علمته بالصفة صح بيعها، وكذلك لو رآه وكيلها في البيع صح البيع أيضًا، وإن لم تره ولا وصف لها.
/فأجاب: إذا لم ير المبيع، ولم يوصف له فالبيع باطل، وعليه رده بمثله أو قيمته.
فأجاب: الحمد لله، أما البيع الشرعي، فالحر المسلم لا يمكن بيعه، ولكن إذا انضم إلى بعض الملوك أو الأمراء متسميا باسم مملوكه، وذلك الملك أو الأمير يجعله من مماليكه الذين يعتقهم، لا يتملكه تملك الأرقاء، فهذا شبه ملك السيد الأول. وهذا الذي يفعله هؤلاء إنما هو بيع عادي، وإطلاق عادي؛ إذ أكثر المماليك ملك لبيت المال، وولاؤهم للمسلمين؛ ولكن من غلب أضيفوا اليه، كما تضاف اليه الأموال، ونحو ذلك، ولا بأس على الإنسان أن ينضاف إلى من يعطيه حقه من بيت مال المسلمين، كما أضيف إلى غيره، وعليهم أن يطيعوا من ولاه الله أمرهم في طاعة الله، ولا يطيعوا أحدًا في معصية الله، فالملك يشبه الملك. والله أعلم. / فأجاب: نعم، يجوز إذا كان في رجوعه إلى تلك البلاد ضرر عليه في دينه أو دنياه؛ فإنه يباع في هذه البلاد بدون إذن أستاذه. والله اعلم.
/فأجاب: إذا دخل المسلم إلى دار الحرب بغير أمان، فاشتري منهم أولادهم، وخرج بهم إلى دار الإسلام، كانوا ملكًا له باتفاق الأئمة، وله أن يبيعهم للمسلمين، ويجوز أن يشتروا منه، ويستحق على المشتري جميع الثمن. وكذلك إذا باع الحربي نفسه للمسلم وخرج به، فإنه يكون ملكه بطريق الأولي والأحري، بل لو أعطوه أولادهم بغير ثمن، وخرج بهم ملكهم، فكيف إذا باعوه ذلك. وكذلك لو سرق أنفسهم، أو أولادهم، أو قهرهم بوجه من الوجوه، فإن نفوس الكفار المحاربين، وأموالهم مباحة للمسلمين، فإذا استولوا عليها بطريق مشروع ملكوها. وإنما تنازع العلماء فيما إذا كان مستأمنًا: فهل له أن يشتري منهم أولادهم؟ على قولين في مذهب أبي حنيفة، ومالك. وأحمد في رواية: أنه يجوز الشراء منهم، حتى قال أبوحنيفة وأحمد في رواية منصوصة عنه: أنه إذا هادن المسلمون أهل بلد، وسباهم من باعهم للمسلمين، جاز الشراء منه، وخالفه في ذلك مالك والشافعي في الرواية الأخري. وكذلك لو قهر أهل الحرب بعضهم بعضًا أو وهب بعضهم بعضًا،/ أو اشترى بعضهم بعضا، أو سرقهم وباعهم، أو وهبهم للمسلمين، تملكوهم، كما يملكهم المسلمون إذا ملكوهم بالقهر.
فأجاب: إذا ثبت أنه كان حرا، فإنه يجب تغريمه للذي باعه، وتغريره؛ لكونه أقر له بالرق. وللمشتري أن يطالب بالثمن من الذي قبضه منه، وله أن يطلبه من هذا الآخذ الذي غره.
|